الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.من أقوال المفسرين: .قال الفخر: ثم قال تعالى: {وَمِنْ ءاياته أَنَّكَ تَرَى الأرض خاشعة}.واعلم أنه تعالى لما ذكر الآيات الأربع الفلكية وهي الليل والنهار والشمس والقمر، أتبعها بذكر آية أرضية فقال: {وَمِنْ ءاياته أَنَّكَ تَرَى الأرض خاشعة} والخشوع التذلل والتصاغر، واستعير هذا اللفظ لحال الأرض حال خلوها عن المطر والنبات {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهتزت وَرَبَتْ} أي تحركت بالنبات، وربت: انتفخت لأن النبت إذا قرب أن يظهر ارتفعت له الأرض وانتفخت، ثم تصدعت عن النبات، ثم قال: {إِنَّ الذي أحياها لَمُحيي الموتى} يعني أن القادر على إحياء الأرض بعد موتها هو القادر على إحياء هذه الأجساد بعد موتها، وقد ذكرنا تقرير هذا الدليل مرارًا لا حصر لها، ثم قال: {إِنَّهُ على كُلّ شيء قَدِيرٌ} وهذا هو الدليل الأصلي وتقريره إن عودة التأليف والتركيب إلى تلك الأجزاء المتفرقة ممكن لذاته، وعود الحياة والعقل والقدرة إلى تلك الاْجزاء بعد اجتماعها أيضًا أمر ممكن لذاته، والله تعالى قادر على الممكنات، فوجب أن يكون قادرًا على إعادة التركيب والتأليف والحياة والقدرة والعقل والفهم إلى تلك الأجزاء، وهذا يدل دلالة واضحة على أن حشر الأجساد ممكن لا امتناع فيه ألبتة، والله أعلم.{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} اعلم أنه تعالى لما بيّن أن الدعوة إلى دين الله تعالى أعظم المناصب وأشرف المراتب، ثم بيّن أن الدعوة إلى دين الله تعالى، إنما تحصل بذكر دلائل التوحيد والعدل وصحة البعث والقيامة، عاد إلى تهديد من ينازع في تلك الآيات، ويحاول إلقاء الشبهات فيها، فقال: {إِنَّ الذين يُلْحِدُونَ فِي ءاياتنا} يقال ألحد الحافر ولحد إذا مال عن الاستقامة فحفر في شق، فالملحد هو المنحرف، ثم بحكم العرف اختص بالمنحرف عن الحق إلى الباطل، وقوله: {لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} تهديد كما إذا قال الملك المهيب: إن الذين ينازعونني في ملكي أعرفهم، فإنه يكون ذلك تهديدًا، ثم قال: {أفمن يلقى في النار خير أمن يأتي آمنًا يوم القيامة} وهذا استفهام بمعنى التقرير، والغرض التنبيه على أن الذين يلحدون في آياتنا يلقون في النار، والذين يؤمنون بآياتنا يأتون آمنين يوم القيامة.ثم قال: {اعملوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وهذا أيضًا تهديد ثالث، ونظيره ما يقوله الملك المهيب عند الغضب الشديد إذا أخذ يعاتب بعض عبيده ثم يقول لهم اعملوا ما شئتم فإه هذا مما يدل على الوعيد الشديد.ثم قال تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر لَمَّا جَاءهُمْ} وهذا أيضًا تهديد، وفي جوابه وجهان: أحدهما: أنه محذوف كسائر الأجوبة المحذوفة في القرآن على تقدير: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم يجازون بكفرهم أو ما أشبه والثاني: أن جوابه قوله: {أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} والأول أصوب، ولما بالغ في تهديد الذين يلحدون في آيات القرآن أتبعه ببيان تعظيم القرآن، فقال: {وَإِنَّهُ لكتاب عَزِيزٌ} والعزيز له معنيان أحدهما: الغالب القاهر والثاني: الذي لا يوجد نظيره، أما كون القرآن عزيزًا بمعنى كونه غالبًا، فالأمر كذلك لأنه بقورة حجته غلب على كل ما سواه، وأما كونه عزيزًا بمعنى عديم النظير، فالأمر كذلك لأن الأولين والآخرين عجزوا عن معارضته، ثم قال: {لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} وفيه وجوه: الأول: لا تكذبه الكتب المتقدمة كالتوراة والإنجيل والزبور، ولا يجيء كتاب من بعده يكذبه الثاني: ما حكم القرآن بكونه حقًا لا يصير باطلًا، وما حكم بكونه باطلًا لا يصير حقًا الثالث: معناه أنه محفوظ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه، أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه.والدليل عليه قوله: {وَإِنَّا لَهُ لحافظون} [الحجر: 9] فعل هذا الباطل هو الزيادة والنقصان الرابع: يحتمل أن يكون المراد أنه لا يوجد في المستقبل كتاب يمكن جعله معارضًا وله ولم يوجد فيما تقدم كتاب يصلح جعله معارضًا له الخامس: قال صاحب الكشاف هذا تمثيل، والمقصود أن الباطل لا يتطرق إليه، ولا يجد إليه سبيلًا من جهة من الجهات حتى يتصل إليه.واعلم أن لأبي مسلم الأصفهاني أن يحتج بهذه الآية على أنه لم يوجد النسخ فيه لأن النسخ إبطال فلو دخل النسخ فيه لكان قد أتاه الباطل من خلفه وإنه على خلاف هذه الآية.ثم قال تعالى: {تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} أي حكيم في جميع أحواله وأفعاله، حميد إلى جميع خلقه بسبب كثرة نعمه، ولهذا السبب جعل {الحمد للَّهِ رَبّ العالمين} [الفاتحة: 2] فاتحة كلامه، وأخبر أن خاتمة كلام أهل الجنة، وهو قوله: {الحمد للَّهِ رَبّ العالمين} [الزمر: 75]. اهـ..قال القرطبي: قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرض خَاشِعَةً} الخطاب لكل عاقل أي {وَمِنْ آيَاتِهِ} الدالة على أنه يحيي الموتى {أَنَّكَ تَرَى الأرض خَاشِعَةً} أي يابسة جدبة؛ هذا وصف الأرض بالخشوع؛ قال النابغة:والأرض الخاشعة: الغبراء التي تنبت.وبلدة خاشعة: أي مغبرة لا منزل بها.ومكان خاشع.{فَإِذَا أنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهتزت} أي بالنبات؛ قاله مجاهد.يقال: اهتز الإنسان أي تحرك؛ ومنه: {وَرَبَتْ} أي انتفخت وعلت قبل أن تنبت؛ قاله مجاهد.أي تصعدت عن النبات بعد موتها.وعلى هذا التقدير يكون في الكلام تقديم وتأخير وتقديره: ربت واهتزت.والاهتزاز والربو قد يكونان قبل الخروج من الأرض؛ وقد يكونان بعد خروج النبات إلى وجه الأرض؛ فرُبُوُّها ارتفاعها.ويقال للموضع المرتفع: ربوة ورابية؛ فالنبات يتحرك للبروز ثم يزداد في جسمه بالكبر طولًا وعرضًا.وقرأ أبو جعفر وخالد {وَرَبَأَتْ} ومعناه عظمت؛ من الربيئة.وقيل: {اهْتَزَّتْ} أي استبشرت بالمطر {وَرَبَتْ} أي انتفخت بالنبات.والأرض إذا انشقت بالنبات: وُصِفت بالضحك، فيجوز وصفها بالاستبشار أيضًا.ويجوز أن يقال الربو والاهتزاز واحد؛ وهي حالة خروج النبات.وقد مضى هذا المعنى في الحج {إِنَّ الذي أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الموتى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تقدم في غير موضع.قوله تعالى: {إِنَّ الذين يُلْحِدُونَ في آيَاتِنَا} أي يميلون عن الحق في أدلتنا.والإلحاد: الميل والعدول.ومنه اللحد في القبر؛ لأنه أميل إلى ناحية منه.يقال: ألحد في دين الله أي حاد عنه وعدل.ولَحَد لغة فيه.وهذا يرجع إلى الذين قالوا: {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ} [فصلت: 26] وهم الذين ألحدوا في آياته ومالوا عن الحق فقالوا: ليس القرآن من عند الله، أو هو شعر أو سحر؛ فالآيات آيات القرآن.قال مجاهد: {يُلْحِدُونَ في آيَاتِنَا} أي عند تلاوة القرآن بالمُكَاءِ والتَّصْدِيةِ واللَّغو والغِناء.وقال ابن عباس: هو تبديل الكلام ووضعه في غير موضعه.وقال قتادة: {يُلْحِدُونَ في آيَاتِنَا} يكذبون في آياتنا.وقال السدي: يعاندون ويشاقون.وقال ابن زيد: يشركون ويكذبون.والمعنى متقارب.وقال مقاتل: نزلت في أبي جهل.وقيل: الآيات المعجزات، وهو يرجع إلى الأوّل فإن القرآن معجز.{أَفَمَن يلقى فِي النار} على وجهه وهو أبو جهل في قول ابن عباس وغيره.{خَيْرٌ أَم مَّن يأتي آمِنًا} قيل: النبي صلى الله عليه وسلم؛ قاله مقاتل.وقيل: عثمان.وقيل: عمار بن ياسر.وقيل: حمزة.وقيل: عمر بن الخطاب.وقيل: أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي.وقيل: المؤمنون.وقيل: إنها على العموم؛ فالذي يلقى في النار الكافر، والذي يأتي آمنًا يوم القيامة المؤمن؛ قاله ابن بحر.{اعملوا مَا شِئْتُمْ} أمر تهديد؛ أي بعد ما علمتم أنهما لا يستويان فلابد لكم من الجزاء.{إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وعيد بتهديد وتوعد.قوله تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر لَمَّا جَاءَهُمْ} الذكر هاهنا القرآن في قول الجميع؛ لأن فيه ذكر ما يحتاج إليه من الأحكام.والخبر محذوف تقديره هالكون أو معذَّبون.وقيل: الخبر {أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44] واعترض قوله: {مَا يُقَالُ لَكَ} ثم رجع إلى الذكر فقال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أعْجَمِيًّا} [فصلت: 44] ثم قال: {أولَئِكَ يُنَادَونَ} والأوّل الاختيار؛ قال النحاس: عند النحويين جميعًا فيما علمت.{وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} أي عزِيز على الله؛ قاله ابن عباس؛ وعنه: عزيز من عند الله.وقيل: كريم على الله.وقيل: {عَزِيزٌ} أي أعزه الله فلا يتطرّق إليه باطل.وقيل: ينبغي أن يعز ويُجلّ وألا يلغى فيه.وقيل: {عَزِيزٌ} من الشيطان أن يبدّله؛ قاله السدي.مقاتل: منع من الشيطان والباطل.السدي: غير مخلوق فلا مثل له.وقال ابن عباس أيضًا: {عَزِيزٌ} أي ممتنع عن الناس أن يقولوا مثله.{لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} أي لا يكذبه شيء مما أنزل الله من قبل ولا ينزل من بعده كتاب يبطله وينسخه؛ قاله الكلبي.وقال السدي وقتادة: {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ} يعني الشيطان {مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} لا يستطيع أن يغيّر ولا يزيد ولا ينقص.وقال سعيد بن جبير: لا يأتيه التكذيب {مِنْ بَيْنِ يدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ}.ابن جريج: {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ} فيما أخبر عما مضى ولا فيما أخبر عما يكون.وعن ابن عباس: {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} من الله تعالى: {وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} يريد من جبريل صلى الله عليه وسلم، ولا من محمد صلى الله عليه وسلم.{تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} ابن عباس: {حَكيم} في خلقه {حَمِيدٍ} إليهم.قتادة: {حَكِيمٍ} في أمره {حَمِيدٍ} إلى خلقه. اهـ.
|